لرضاعة

أول من أرضعت الرسول صلى الله عليه وسلم من المراضع بعد أمه كانت ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، و كانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وكانت العادة عند أهل الحضر من العرب ( خلاف البدويين ) أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ، ابتعادا لهم عن أمراض المدن ؛ لتقوى أجسامهم ، وتشتد أعصابهم ، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم ، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرضعات ، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر ـ وهي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ـ وكان زوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة .

وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث ( وهي الشيماء ) وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأت حليمة من بركته صلى الله علية وسلم ما عجبت منه أشد العجب .

كانت حليمة تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه ، في نسوة من بني سعد لجلب الرضعاء ، وذلك في سنة مجدبة شديدة، خرجت على أنثى حمار بيضاء ، ومعهم ناقة ليس فيها قطرة لبن ، وأنهم لم يناموا طوال الليل من بكاء الصبي من الجوع ، وليس في ثديها ما يكفيه ، وما في الناقة ما يغذيه ، وبسبب ضعف الأتان التي كانت تركبها حليمة فقد تأخرت عن باقي المرضعات حتى ضايقهم ذلك ، حتى قدموا مكة، فما منهن امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم ، وذلك أن كل واحدة منهن كانت ترجو المعروف من أبي الصبى، فكانت تقول : يتيم ! وما عسى أن تصنع أمه وجده ! .

وفي نهاية اليوم لم تبق امرأة ليس معها رضيع ، إلا حليمة، فلما هموا بالانصراف قالت حليمة لزوجها : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه! قال : لا عليك أن تفعلي ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة .

قالت : فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ؛ فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما ، وما كنا ننام منه قبل ذلك. وقام زوجها إلى ناقتهم فإذا ضرعها مليء باللبن ، فحلب منها و شرب ، وشربت معه حليمة حتى انتهيا ريا وشبعا ، فبات الجميع بخير ليلة! فقال زوجها : تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة ! فقالت : والله إني لأرجو ذلك .

ثم خرجوا وركبت حليمة الأتان العجفاء التي أتت عليها ، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم معها ، فسبقت جميع المرضعات ، حتى إن صواحبها ليقلن لها : يا ابنة أبي ذؤيب ، ويحك أربعي علينا ( أي تمهلي ) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فتقول لهن : بلى والله إنها لهي ! فيقلن : والله إن لها لشأنا ! ثم قدموا منازلهم من بلاد بني سعد ، وليس في أرض الله أجدب منها ؛ فكانت غنم حليمة ترعى وتعود شباعا مملوءة لبنا ، فيحلبون ، ويشربون ، وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها في ضرع ، حتى كان قومها من بني سعد يقولون لرعيانهم : ويلكم ، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن ، وتروح غنم حليمة شباعا تمتلىء لبنا .

ولم تزل حليمة وأهلها يأتيهم من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتا الرضاعة وفصلته ( أي فطمته ) .

وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما فتيا ، فقدموا به على أمه وهم أحرص شيء على مكثه فيهم ؛ لما كانوا يرون من بركته ، فقالت حليمة لأمه آمنة : لو تركت بني عندي حتى غلظ ، فإني أخاف عليه وباء مكة ؟ وأخذوا يلحون عليها حتى ردته معهم، فرجعوا به .

حادثة شق الصدر

بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد ، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدر ه.

روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل ، وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ( أي أغلق قلبه ) ثم أعاده إلى مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ( يعني مر ضعته ) فقالوا : إن محمدا قد قتل .

تقول حليمة : فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدته قائما منتقعا وجهه، فالتزمته ( أي فاحتضنته ) والتزمه أبوه، فقلنا : مالك يا بني ؟ قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو ؟ فرجع به إلى خبائنا وقال لي أبوه : يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به ، فاحتملناه فقدمنا به على أمه؛ فقالت : ما أقدمك به يا ظئر ( الظئر: المرضعة ) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟ فقلت : قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي ، وتخوفت الأحداث عليه ، فأديته إليك كما تحبين. قالت : ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك .

فلم تدعني حتى أخبرتها .

قالت: أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قلت : نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل ، وإن لبني لشأنا ، أفلا أخبرك خبره ؟ قلت : بلى. قالت : رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء قصور بصرى ، من أرض الشام ، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه ، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض ، رافع رأسه إلى السماء ، دعيه عنك وانطلقي راشدة

وفاة آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم وكفالة جده له

رأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن ، وقيمها عبد المطلب ، فمكثت شهرا ، ثم رجعت ، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض ، ويلح عليها في أوائل الطريق ، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة .

وعاد به عبد المطلب إلى مكة ،وكانت مشاعر الحنان في فؤاده تزيد نحو حفيده اليتيم ، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة ، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده ، فكان لا يدعه لوحدته ، بل يؤثره على أولاده ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام صغير حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا ثم يجلس معه على فراشه ، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع .

ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة ، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه